فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)}.
قوله تعالى: {خِطْئًا}: قرأ ابن ذكوان: {خَطَّأً} بفتح الخاءِ والطاءِ مِنْ غيرِ مَدّ، وابنُ كثير بكسرِ الخاء والمدّ، ويلزمُ منه فتحُ الطاء، والباقون بالكسرِ وسكونِ الطاء.
فأمَّا قراءةُ ابنِ ذكوان فَخَرَّجها الزجَّاج على وجهين: أحدهما: أن يكونَ مصدرٍ مِنْ أَخطأ يُخْطِىء خَطَأً، أي: إخطاءً، إذا لم يُصِبْ. والثاني: أن يكونَ مصدرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً، إذا لم يُصِبْ أيضًا، وأنشد:
والناسُ يَلْحَوْن الأميرَ إذا هُمُ ** خَطِئوا الصوابَ ولا يُلام المُرْشِدُ

والمعنى على هذين الوجهين: أنَّ قَتْلهم كان غيرَ صواب. واستبعد قومٌ هذه القراءةَ قالوا: لأن الخطأ ما لم يُتَعَمَّدْ فلا يَصِحُّ معناه ههنا.
قلت: وخفي عنهم أن يكونَ بمعنى أخطأ، أو أنه يقال: خَطِئ إذا لَمْ يُصِبْ.
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فهي مصدرٌ خاطَأَ يُخاطِئ خِطاءً مثل: قاتَلَ يُقاتِل قِتالًا. قال أبو علي: هي مصدرُ خاطَأَ يُخاطِئ، وإنْ كنَّا لم نجدْ خاطَأَ ولكنْ وَجَدْنا تخاطَأَ وهو مطاوِعُ خاطَأَ فَدَلَّنا عليه، ومنه قولُ الشاعر:
تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَه ** وأخَّر يَوْمِي فلم يَعْجَلِ

وقال الآخر:
تخاطأَه القَنَّاصُ حتى وَجَدْتُه ** وخُرْطُوْمُه في مَنْقَعِ الماءِ راسِبُ

فكأنَّ هؤلاء الذين يَقْتُلون أولادَهم يُخاطِئُون الحقَّ والعَدل.
وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ حتى قال أبو جعفر: لا أَعْرِفُ لهذه القراءةِ وجهًا، ولذلك جعلها أبو حاتم غَلَطًا. قلت: قد عَرَفه غيرُهما ولله الحمدُ.
وأمَّا قراءةُ الباقين فخي جيدةٌ واضحةٌ لأنها مِنْ قولهم: خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئًا، كأَثِمَ يَأثَمُ إثْمًا، إذا تَعَمَّد الكذبَ.
وقرأ الحسن: {خَطاء} بفتح الخاء والمدّ وهو اسمُ مصدر أَخْطَأَ كالعَطاء اسمٌ للإِعطاء.
وقرأ أيضًا {خَطا} بالقصرِ، وأصلُه خَطَأ كقراءةِ ابن ذَكْوان، إلا أنه سَهَّل الهمزةَ بإبدالها ألفًا فَحُذِفت كعَصا.
وأبو رجاءٍ والزُّهْريُّ كذلك، إلا أنهما كسرا الخاء كزِنَى وكلاهما مِنْ خَطِئ في الدِّين، وأَخْطأ في الرأي، وقد يُقام كلٌّ منهما مقامَ الآخرَ.
وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ {خَطْئًَا} بالفتح والسكون والهمزِ، مصدرُ خَطِئ بالكسرِ.
وقرأ ابنُ وثاب والاعمش: {تُقَتِّلوا} و{خِشْية} بكسرِ الخاء.
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)}.
قوله تعالى: {الزنى}: العامَّةُ على قصرِه وهي اللغة الفاشية، وقُرِئ بالمدِّ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه لغةٌ في المقصور. والثاني: أنه مصدر زاني يُزاني، كقاتل يُقاتل قِتالًا؛ لأنَّه يكونُ بين اثنتين، وعلى المدِّ قولُ الفرزدق:
أبا خالدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُه ** ومن يَشْرَبِ الخُرْطومَ يُصْبِحْ مُسَكَّرًا

وقول الآخر:
كانت فريضةُ ما تقولُ كما ** كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ

وليس ذلك من بابِ الضرورةِ لثبوتِه قراءةً في الجملة.
قوله: {وَسَآءَ سَبِيلًا} تقدَّم نظيره. قال ابنُ عطيةَ: و{سبيلًا} نصبٌ على التمييز، أي: وساء سبيلًا سبيلُه. ورَدَّ الشيخ: هذا: بأنَّ قوله: منصوبٌ على التمييز ينبغي أن يكونَ الفاعلُ ضميرًا مُفَسَّرًا بما بعده من التمييز فلا يصحُّ تقديرُه: ساء سبيلُه سبيلًا؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم جنس.
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}.
قوله تعالى: {إِلاَّ بالحق}: أي: إلا بسببِ الحق، فيتعلَّقُ بـ {لاَ تَقْتُلُواْ} ويجوز أن يكونَ حالًا مِنْ فاعل {لاَ تَقْتُلُواْ} أو مِنْ مفعولِه، أو: لا تَقْتُلُوا إلا ملتبسين بالحق أو إلا ملتبسةً بالحقِّ، ويجوز أن يكونَ نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إلا قَتْلًا ملتبسًا بالحق.
قوله: {مَظْلُومًا} حالٌ مِنْ مرفوع {قُتِل}.
قوله: {فَلاَ يُسْرِف} قرأ الأخَوان بالخطاب، على إرادةِ الوليِّ، وكان الوليُّ يَقْتُل الجماعةَ بالواحد، أو السلطانِ رَجَع لمخاطبته بعد أن اتى به غائبًا.
والباقون بالغَيْبة، وهي تحتمل ما تقدَّم في قراءةِ الخطاب.
وقرأ أبو مسلم برفعِ الفاءِ على أنه خبرٌ في معنى النهيِ كقولِه: {فَلاَ رَفَثَ} [البقرة: 197]. وقيل: {في} بمعنى الباء، أي: بسبب القتلِ.
قوله: {إِنَّهُ كَانَ}، أي: إنَّ الوليَّ، أو إنَّ السلطان، أو إنَّ القاتل، أي: أنه إذا عُوقِب في الدنيا نُصِر في الآخرة، أو إلى المقتولِ، أو إلى الدمِ أو إلى الحق. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} مَنْ عَرَفَ أَنَّ الرازقَ هو الله خفَّ عن قلبه همُّ العيال- وإنْ كَثُروا، ومن خفي عليه أنه قَسَّمَ- قبل الخَلْقِ- أرزاقَهم تطوح في متاهات مغاليطه، فيقع فيها بالقلب والبَدَنِ ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير.
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)}.
ترَّجحَ الزنا على غيره من الفواحش لأن فيه تضييعَ حُرْمَةِ الحقِّ، وهتكَ حُرْمَةِ الخلْق، ثم لِمَا فيه من الإخلال بالنَّسَبِ، وإفسادِ ذات البين من مقتضى الأَنَفَةِ والغضب.
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} لا يجوز قَتْلُ نَفْسِ الغير بغير الحق، ولا للمرء أن يقتل نَفْسَه أيضًا بغير الحق. وكما أنَّ قتلَ النَّفْس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات مُحَرَّمٌ فكذلك القَصْدُ إلى هلاكِ المرءِ مُحَرَّمٌ.
ومن انهمك في مخالفة ربه فقد سعى في هلاك نفسه. {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانًَا}: أي تسلطًا على القاتل في الاقتصاص منه، وعلى معنى الإشارة:
إلى النصرة مِنْ قِبَلِ الله: ومنصورُ الحقِّ لا تنكسر سِنَانُه، ولا تطيشُ سِهَامُه. اهـ.

.تفسير الآيات (34- 36):

قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نهى عن الإغارة على الأرواح والأبضاع التي هي سببها، أتبعه النهي عن نهب ما هو عديلها، لأن به قوامها، وهو الأموال، وبدأ بأحق ذلك بالنهي لشدة الطمع فيه لضعف مالكه فقال تعالى: {ولا تقربوا} أي فضلًا عن أن تأكلوا {مال اليتيم} فعبر بالقربان الذي هو قبل الأخذ تعظيمًا للمقام {إلا بالتي هي أحسن} من طرائق القربان، وهو التصرف فيه بالغبطة تثميرًا لليتيم {حتى يبلغ} اليتيم {أشده} وهو إيناس الرشد منه بعد بلوغه.
ولما كانت الوصية نوعًا من أنواع العهد، أمر بوفاء ما هو أعم منها فقال تعالى: {وأوفوا} أي أوقعوا هذا الجنس في الزمان والمكان، وكل ما يتوقف عليه الأمر المعاهد عليه ويتعلق به {بالعهد} أي بسببه ليتحقق الوفاء به ولا يحصل فيه نقص ما، وهو العقد الذي يقدم للتوثق.
ولما كان العلم بالنكث والوفاء متحققًا، كان العهد نفسه كأنه هو المسؤول عن ذلك، فيكون رقيبًا على الفاعل به، فقال تعالى مرهبًا من المخالفة: {إن العهد كان} أي كونًا مؤكدًا عنه {مسؤولًا} أي عن كل من عاهد هل وفى به؟ أو مسؤولًا عنه من كل من يتأتى منه السؤال.
ولما كان التقدير بالكيل أو الوزن من جملة الأمانات الخفية كالتصرف لليتيم، وكان الائتمان عليه كالمعهود فيه، أتبعه قوله: {وأوفوا الكيل} أي نفسه فإنه أمر محسوس لا يقع فيه إلباس واشتباه؛ ولما كان صالحًا لمن أعطى ومن أخذ، قال: {إذا كلتم} أي لغيركم، فإن اكتلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم توفوا الكيل {وزنوا} أي وزنًا متلبسًا {بالقسطاس} أي ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين، وزاد في تأكيد معناه فقال تعالى: {المستقيم} دون شيء من الحيف على ما مضى في الكيل سواء {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة الذي أمرناكم به {خير} لكم في الدنيا والآخرة وإن تراءى لكم أن غيره خير {وأحسن تأويلًا} أي عاقبة في الدارين، وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع، وأفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة لإرخاء العنان، أي على تقدير أن يكون في كل منهما خير، فهذا الذي أزيد خيرًا والعاقل لا ينبغي أن يرضى لنفسه بالدون.
ولما كان ذلك مما تشهد القلوب بحسنه، وأضداده مما تتحقق النفوس قبحه، لأن الله تعالى جبل الإنسان على ذلك كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «البر ما سكن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك المفتون وأفتوك» وقال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» وكان قد جمع الضمائر سبحانه، تلاه سبحانه بما يعمه وغيره فقال تعالى مفردًا الضمير ليصوب النهي إلى كل من الجمع والإفراد في حالتي الاجتماع والانفراد على حد سواء: {ولا} أي افعلوا ما أمرتم به من ذلك، وانتهوا عما نهيتم عنه منه، لما تقرر في الجبلات من العلم الضروري بخيريته وحسنه، ولا {تقف} أي تتبع أيها الإنسان مجتهدًا بتتبع الآثار {ما ليس لك به علم} من ذلك وغيره، كل شيء بحسبه، لا سيما البهت والقذف، فما كان المطلوب فيه القطع لم يقنع فيه بدونه، وما اكتفى فيه بالظن وقف عنده؛ ثم علل ذلك مخوفًا بقوله: {إن السمع والبصر} وهما طريقا الإدراك {والفؤاد} الذي هو آلة الإدراك؛ ثم هوّل الأمر بقوله تعالى: {كل أولئك} أي هذه الأشياء العظيمة، العالية المنافع، البديعة التكوين، وأولاء وجميع أسماء الإشارة يشار بها للعاقل وغيره كقوله:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

{كان} أي بوعد لا خلف فيه {عنه} أي وحده {مسؤولًا} بسؤال يخصه، هل استعمله صاحبه في طلب العلم مجتهدًا في ذلك، ليعمل عند الوقوف على الحقائق بما يرضي الله، ويجتنب ما يسخطه أو لا؟ وأول حديث النفس السابح ثم الخاطر ثم الإرادة والعزيمة، فيؤاخذ بالإرادة والعزيمة لدخولهما تحت الاختيار فيتعلق بهما التكليف، ولعدم دخول الأولين خفف عنا بعدم المؤاخذة بهما، كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسهم ما لم تعمل به أو تكلم». اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات.
اعلم أنا ذكرنا أن الزنا يوجب اختلاط الأنساب.
وذلك يوجب منع الاهتمام بتربية الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل، وذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود، وأما القتل فهو عبارة عن إعدام الناس بعد دخولهم في الوجود، فثبت أن النهي عن الزنا والنهي عن القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس، فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، لأن أعز الأشياء بعد النفوس الأموال، وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم، لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله، فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6] وفي تفسير قوله: {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} وجهان: الأول: إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره.
الثاني: المراد هو أن تأكل معه إذا احتجت إليه، وروى مجاهد عن ابن عباس قال: إذا احتاج أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه.
واعلم أن الولي إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده وهو بلوغ النكاح، كما بينه الله تعالى في آية أخرى وهو قوله: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْدًا فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} [النساء: 6] والمراد بالأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله، وعند ذلك تزول ولاية غيره عنه وذلك حد البلوغ، فأما إذا بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه، والله أعلم.
وبلوغ العقل هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية، والله أعلم.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)}.
اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولًا، ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا، وعن القتل إلا بالحق، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ}.
واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} نظير لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] فدخل في قوله: {أَوْفُواْ بالعقود} كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة، وعقد اليمين والنذر، وعقد الصلح، وعقد النكاح.
وحاصل القول فيه: أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد، إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها، ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا} [البقرة: 177] وقوله: {والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون} [المؤمنون: 8] وقوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} [البقرة: 275] وقوله: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} [النساء: 29] وقوله: {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقوله عليه السلام: «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيبة من نفسه» وقوله: «إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد» وقوله: «من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه» فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام.